الفكرالإسلامي

 

من إعجاز القرآن الكريم

جمع السماوات وإفراد الأرض

إعداد: أبو فايز القاسمي المبارك فوري

 

 

 

        نمر على كثير من الآيات في القرآن فلا نكاد ننظر فيها ولا نتأملها، إما لشرود في الذهن، وإما لعدم فهم بعض ألفاظها؛ لأن كثيراً من ألفاظ اللغة العربية قد نسيناه ولم نعد نعرف معناه؛ إذ نحن  في شغل شاغل عن المعاني والألفاظ وإنما همنا أن نقرأ وفقط.

     ومن هذا الباب أن الله سبحانه وتعالى جمع «السماوات» وأفرد «الأرض» مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضاً و المؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام، فإذا جمع أحد المتقابلين كان أجدر أن يجمع الآخر عندهم، ولذا عيب على أبي نواس قوله:

ومالك فاعلمن فينــا مقالا

إذا استكملت آجالاً ورزقاً

     إذن ما السبب في جمع السماوات وإفراد الأرض؟

والجواب عنه من وجوه:

     الأول: أنها بمنزلة السفل والتحت؛ ولكن وصف بها هذا المكان المحسوس فجرت مجرى امرأة زور وضيف فلا معنى لجمعهما كما لا يجمع الفوق والتحت والعلو والسفل، فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو فجاز أن تثنى إذا ضممت إليها جزءا آخر.

     ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «طوقه من سبع أرضين»(1) فجمعها لما اعتمد الكلام على ذات الأرض؛ وأثبتها على التفصيل والتعيين لآحادها دون الوصف بكونها تحت أوسفل في مقابلة علو.

     وأما جمع السموات فإن المقصود بها ذاتها دون معنى الوصف فلهذا جمعت جمع سلامة؛ لأن العدد قليل وجمع القليل أولى به بخلاف الأرض؛ فإن المقصود بها معنى التحت والسفل دون الذات والعدد وحيث أريد بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على التعدد كقوله تعالى: (وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) [الطلاق/12](2).

     الثاني: أن الأرض لانسبة لها إلى السماوات وسعتها بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس(3).

     الثالث: أن الأرض هي دار الدنيا التي هي بالنسبة إلى الآخرة كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم فما يعلق بها هو مثال الدنيا والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها، وأما السماوات فليست من الدنيا على أحد القولين، فإذا أريد الوصف الشامل للسماوات وهو معنى العلو والفوق أفردته كالأرض بدليل قوله تعالى: ﴿أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ[الملك/16-17] فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل وليس المراد سماء معينة.

     وكذا قوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [يونس/61 ] بخلاف قوله في سبأ الغيب: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمٰوٰتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ[سبأ/3] فإنه قد ذكر الله سبحانه قبله - سعة علمه وأن له ما في السماوات وما في الأرض فاقتضى السياق أن يذكر سعة علمه وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السماوات كلها والأرض ولمالم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس.

     وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات/22] الرزق: المطر، و(ما توعدون) الجنة، وكلاهما في هذه الجهة؛ لأنها في كل واحدة من السموات فكان لفظ الإفراد أليق وجاءت مجموعة في قوله: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل/65] لما كان المراد نفى علم الغيب عن كل من هو في واحدة واحدة من السموات أتى بها مجموعة ولم يجئ في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذاتها بل المراد الوصف. 

     فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ الآية [يونس/31] وبين قوله في سورة سبأ: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ/24]؟

     قيل: السياق في كل منهما مرشد إلى الفرق؛ فإن الآيات التي في «يونس» سيقت للاحتجاج عليهم بما أقروا به من كونه تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم بأن يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم؛ إذ فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره فكيف تعبدون معه غيره؛ ولهذا قال بعده: ( الله) أي هم يقرون به ولا يجحدونه والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهي إليهم فأفردت لفظة السماء هنا لذلك.

     وأما الآية التى في سبأ؛ فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماء ولهذا أمر رسوله بأن يجيب، وأن يذكر عنهم أنهم هم المجيبون فقال: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ[سبأ/24]  ولم يقل: (الله) أي الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات(4).

     الرابع: «الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناءً بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف. وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة و لعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكرويتها الذاهب إليه بعض منا وعظم آيات الله فيها؛ ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلاً وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك. والأرض - وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - فليس ذلك إلا للتلبيغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للإقامة في حضيرة القدس؛ لأنها ليس بدار قرار، وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها، وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد، وكذا كون الله تعالى وصف بقاعاً منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا، ولهذا الشرف أيضاً قدمت على الأرض في الذكر(5).

     الخامس: جمع السماوات وأفرد الأرض؛ لأن السماء جارية مجرى الفاعل، والأرض جارية مجرى القابل فلوكانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم، وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحدكافٍ في القبول.

     وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالةً عقليةً والأرض وإن كانت متعددة؛ لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض(6).

     السادس: وقال بعضهم: إنه لا تعدد حقيقياً في الأرض، ولهذا لم تجمع، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين» فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة، وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون ما هذه؟هذه أرض. هل تدرون ما تحتها؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: أرض أخرى وبينهما مسيرة خمس مئة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمس مئة عام»(7).

     والتحتية لا تأبى ذلك؛ فإن الأرض كالسماء كروية، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته، و المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «بينهما خمس مئة عام أن القوس من إحدى السماوات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمس مئة عام»ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيراً ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين.

     وقوله تعالى:﴿الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سَمٰوٰت وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ[الطلاق:12] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي.

     ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أوأم كل صاد، وحمل المماثلة في الآية أيضاً على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر(8).

     وإليه يميل ابن عاشور في تفسيره حيث قال: وقال المازري في كتابه «المُعلم» على «صحيح مسلم» عند قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشفعة: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه من سبع أرضين يوم القيامة»: كان شيخنا أبومحمد عبد الحميد كتب إليّ بعدَ فراقي له: هل وقع في الشرع ما يدل على كون الأرض سبعاً، فكتبت إليه قولَ الله تعالى: ﴿اللهُ الذَّي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إليّ يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد، وأن الخبر من أخبار الآحاد، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظواهر وأخبارِ الآحاد، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطتُ القول في ذلك وترددتُ في آخر كتابي في احتمالِ ما قال. فقطع المجاوبة اهـ (9).

     وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله:﴿مثلهنراجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم، وأما الحديث فإنه في شأن من شؤون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفاً سبع مرات في الغِلظ والثقل، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة. ولو كان المراد طبقات معلومة لقال: طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف، وكلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري.

     وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله: ﴿ومن الأرض مثلهن من المماثلة في عدد السبع، يجوز أن يقال: إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحارنسميها القارات؛ ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة؛ بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخَر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقّل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولاً.! وهي أن آسيا مع أوروبا قارة، وإفريقيا قارة، وأستراليا قارة، وأميركا الشمالية قارة، وأميركا الجنوبية قارة، وجرولندة في الشمال، والقارة القطبية الجنوبية، ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار، وتكون «من» تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض(10).

*  *  *

الهوامش:

(1)     الحديث أخرجه البخاري في المظالم باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض[2320] ، ومسلم في المساقاة باب تحريم الظلم وغصب الأرض[1610]

(2)     البرهان 4/9

(3)     البرهان 4/9

(4)     البرهان للزكشي  4/9

(5)     الآلوسي في تفسير سورة الأنعام /1

(6)     الآلوسي في تفسير سورة الأنعام /1

(7)     رواه الترمذي في تفسير سورة الحديث [3298]، وأحمد في المسند [8472]، وقال الهيثمي في المجمع (1/46):رواه أحمد وفيه الحكم بن عبد الملك وهو متروك الحديث.

(8)     الآلوسي في تفسير سورة الأنعام /1

(9)     المازري في المعلم على صحيح مسلم 2/329[701]

(10)   ابن عاشور في تفسير أية الطلاق [12]

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم - صفر 1436 هـ = نوفمبر – ديسمبر 2014م ، العدد : 1-2 ، السنة : 39